لم يكن على الأدب الأمريكيّ أن يكتفي بإثبات حقّه في الوجود داخل بلاده فقط، حيث كانت سوق الكتاب غارقة بطبعات أمريكيّة جديدة وكثيرة للكتب الإنكليزيَّة الّتي تمثّل الخصم، بل كان عليه كذلك أن يتابع السّجال الدّائم مع النّقد الإنكليزيّ الّذي لم ينِ، منذ قيام الولايات المتّحدة الأمريكيَّة، يطرح على الأمريكيّين سؤالاً واحداً وبصيغ مختلفة, هو "أين أدبكم؟". وإذ يتذكّر جيمس لوويل هذه الملامات يكتب في مقالة لـه تحت عنوان "أدبنا"، بمناسبة الذّكرى المئويَّة لتولّي واشنطن منصب أوَّل رئيس للولايات المتحدة الأمريكيّة، بأنّ هذا السّؤال ليس ظالماً وحسب، بل وهو مغيظ جدّاً: "لقد بذلنا قصارى جهودنا لكي نُفرح الإنكليز بصنع فيرجيلاتنا وميلتوناتنا(11) نحن، إلاّ أنّنا أخفقنا... إنّ مثل هذا السّؤال لم يطرح قط على شعوب أخرى هي أقدم منّا بكثير، وتنتظر قدوم شاعرها الإلهيّ من زمان بعيد"(12).
وأثناء السَّعي إلى "إلغاء" هذا السُّؤال، والنّضال في آن معاً ضدّ التّصوّرات "المحليَّة" حول القوميّ في الأدب والفنّ، وقع كثيرون من النُّقَّاد الأدبيّين إبَّان تلك السَّنوات في تطرّف آخر وهم يطوّرون أفكارهم حول شموليَّةٍ ما للثَّقافة الرّوحية.
ذلك أنّ لوويل نفسه، وهو يدعو إلى تصوير "الحياة الاجتماعيَّة والسيَّاسيَّة والأُسريَّة الأمريكيَّة" تصويراً صادقاً، كان يرى، مثلاً، أنّ خلق شخصيَّة من الحياة، أو صورة ساطعة، كافٍ بحدّ ذاته، أمّا الخصوصيَّة القوميّة فسوف تتجلَّى في عموميَّة تلك الشّخصيَّة. فالأثر الفّنيّ الصّادق، سواء كان يصوّر شخصية إنسان يعيش في أيّامنا أو قبل الطّوفان، في أمريكا أو في اليونان القديمة، يكفيه أن يكون صادقاً ليصبح، حسب زعمه، أثراً قوميَّاً. وهكذا، فقد استعيض في جوهر الأمر عن مسألةِ ما للثَّقافة الفَّنَّية من خصوصيَّة قوميَّة حقّاً بمقولة جماليَّة خاصَّة بصدق التَّصوير.
بهذا المعنى كان لونغفيلو قريباً جدّاً من شعر لوويل. فقد اتخذ موقفاً ضدّ "المحدوديَّة الإقليميَّة" وعارضها بـ "الشّموليّة". وبينما كان ينكر ضرورة الأدب القوميّ، راح يدعو إلى خلقٍ "أدبيّ فطريّ". إذ أعلن لونغفيلو الشَّابّ، منذ مقالته "دفاع عن الشّعر"، أنّه يناصر العنصر القوميّ بوصفه سمة مميَّزة للأدب، إلاّ أنّه بمرور السّنين راحت تظهر في أحكامه نبرات ذات نغمة "معادية للعنصر القوميّ" على نحو جليّ.
وقد كانت وجهة نظر لونغفيلو إلى الأدب القوميّ في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة "لا قوميَّة" (كوسمو بوليتيَّة) جدّاً، وتجلّى ذلك، على سبيل المثال، في روايته "كافانا" (1849). ففي حوار مستفيض حول الأدب الأمريكيّ يطوّر بطل الرّواية، المعلّم تشرشل، أفكاراً قريبة من أفكار الكاتب نفسه تدور حول أنّه لا ينبغي على أدب الولايات المتّحدة الأمريكيَّة أن يكون قوميَّاً، بل عليه أن يكون ذا طابع عامّ: "إنّ الانتماء القومي حسن في حدود معلومة فقط؛ والانتماء إلى العالم كلّه أمر أفضل.فكلّ ما هو جيّد في شعراء جميع البلدان، ليس ما هو قوميّ فيهم، وإنما ما هو عام فيهم. ذلك أنّ جذورهم ضاربة في أرضهم الأمّ، أمّا أغصانهم فتخفق في الهواء المجرّد من الوطنيَّة، الهواء الواحد بالنّسبة لجميع النّاس. إنّ أوراقهم تشعّ بنورٍ لا حدود لـه ومتساوٍ بالنّسبة لجميع البلدان"(13).
لقد عبّر لونغفيلو عن جملة من الأفكار والملاحظات الصَّحيحة، شأنه في ذلك شأن كثيرين من أنصار مثل هذه الأفكار الّتي كانت منتشرة آنذاك، غير أنّه لم يفهم جوهر تشكّل الأدب القوميّ الأمريكيّ، حين كان ينظر إلى هذه العمليَّة بوصفها مزجاً آلياً لعناصر غير متجانسة، دون أن يلحظ ظهور صفات وملامح جديدة كانت تكتسبها الشَّخصيَّة القوميَّة في طور تشكّلها.
***
اختتمت المرحلة الّتي بلغ النّضال فيها أوجَهُ من أجل ترسيخ الأدب القوميّ عشيَّة الحرب الأهليَّة بظهور أوَّل شاعر واقعي أمريكيّ وهو والت ويتمن. فمقدّمته الأولى لديوان "أوراق العشب" (1855) مشبعة إيماناً وضّاء بمستقبل عظيم لأمريكا وبأدبها. ذلك أنّ الأفكار السَّامية والأحلام الوردَّية لهذا الشَّاعر الَّذي لم تكن بعد قد حنَّكته تجربة الحرب الأهليَّة وما أعقبها من رشاوى وسرقات، قد لاقت في هذه المقدّمة تعبيراً مليئاً بالإعجاب. إنّ تلك المقدّمة بيان فنٍّ ديمقراطيّ للسّنوات القادمة مكتوب بشعور من القلق الشّعريّ الحقّ، ويشعّ إيماناً بمستقبل أمريكا الَّذي يلوح أمام الخيال الذاهل لهذا الشَّاعر الدّيمقراطيّ الشّابّ: "إنّ رسالة الشّعراء الأمريكيّين هي توحيد القديم والجديد... يجب على شاعرهم أن يكون جديراً بشعبه... وأن تتجاوب روحه مع روح بلاده، فهو يجسّد حقولها وطبيعتها وأنهارها وبحيراتها"(14).
لم يكن ويتمن يوماً يعتبر أنّ أمريكا الَّتي عاصرها قد أقامت فنَّها القوميّ الَّذي كان بوسعها أن تفخر به. وكانت رغبته الأقوى هي أن يؤمن ويعرف بأنّه سيكون لأمريكا شعرها العظيم. أيّ شعر سيكون ذلك؟ ـ هذا هو السّؤال الَّذي كان يقلق ويتمن دائماً. وبينما كان ويتمن يتخطّى ما في مقدّمته لـ "أوراق العشب" من إعجاب ساذج، أكدّ في كتابه "آفاق ديمقراطيَّة "بأنّ الشّرط الضروريّ لازدهار الأدب القوميّ لا يتمثّل إلا في الوحدة الرّوحيَّة للولايات، وفي تكاتفها حول المهامّ المشتركة الّتي تواجهها البلاد، وفي تجاوز هيمنة مصالح التّملّك الخاصّ؛ إذ كان يبدو لـه أنّ خلق أدب أمريكيّ أصيل هو أمر وثيق الصّلة بالتّحرّر من قيود الرَّأسماليَّة، وبتطوير واقع الدّيمقراطيَّة في أمريكا.
كتب ويتمن قبل وفاته بزمن قصير، وبطلب من مجلَّة "أمريكا الشمالية"، مقالة "الأدب القوميّ الأمريكيّ" (1891). وتنتهي هذه الوصيَّة الأدبيَّة بسؤال يمكن أن يبدو غريباً إذ ينطق به شاعر أمريكا العظيم، وهو: "الأدب الأمريكيّ؟ وهل يوجد هذا الشّيء، بل هل يمكن أن يوجد بالفعل؟". تلك هي المحصِّلة المرَّة لنصف قرن من تأمّلات أحد أعظم أدباء أمريكا. فقد كان ويتمن في شيخوخته شاهداً على التَّمزُّق داخل المجتمع الأمريكيّ، وعلى تطوّر العلاقات الرّأسماليَّة القاتلة بالنّسبة للأدب، والّتي كانت تتجلّى في الولايات المَّتحدة الأمريكيّة في شكلها الصّريح والأكثر تنفيراً. لقد كان في الواقع الأمريكيّ أثناء نموّ هيمنة الاحتكارات كثير من الجوانب والظّواهر الَّتي أرغمت هذا الشّاعر على الارتياب في إمكانيَّة التّحقّق القريب لحلمه بقيام أدب مشعٍّ عظيم في المستقبل.
***
بعد الحرب الأهليَّة يزداد الاتّجاه الواقعيّ ترسّخاً في أدب الولايات المتّحدة الأمريكيَّة. ثمّ تغرب الرُّومنسيَّة ومعها علم الجمال الرُّومنسيّ.
لقد كان علم الجمال لدى الرّومنسيّين الأمريكيّين يعكس حلمهم الطّوباويَّ المعادي للبرجوازيَّة، حلمهم بحرّيّة أدبهم وبلادهم الولايات المّتحدة الأمريكية، ذلك الحلم الموجّه ضدّ الجشع والتّكالب على المال "والطّمع الاجتماعيّ والفرديّ"، كما يقول إمرسون. لقد كان ذلك الحلم وهماً رومنسيَّاً بقدر ما كان ينطلق من تمجيد "الحرّيَّات الأمريكيَّة" الدّيمقراطيَّة الّتي تمّ إحرازها إبَّان حرب الاستقلال. ولنقد هذا العالم الآخذ بتكوين علاقاته البرجوازيَّة كان لا بدَّ من دفع تصوّره حول الأدب القوميّ إلى خارج أطر الفهم الرّومنسي للعالم. لقد واجه الأدب الأمريكيّ مشكلات كانت تتطلّب حلاًّ واقعياً جديداً.
وبدهيّ أنّ علم الجمال الواقعيّ، وهو يتطوَّر خلال العقود التّالية، كان يقوم بإعادة نظر نقديَّة للتّراث الفّنيّ والنّظري الذي تركه لـه أسلافه. وكانت هذه العمليَّة تتّخذ في بعض الأحيان أشكالاً سجاليّة حادّة، حيث تعرَّضت لإعادة النّظر، بل ولإلغاء ظالم أحياناً، قيم فنِّيَّة معترف بها، بعد أن خيِّل أنّها قد استقرَّت. فلنتذكّر على الأقل موقفاً شهيراً لمارك توين وهو ينكر على كوبّر حقّه في أن يسمّى واحداً من عظماء رومنسيّي أمريكا. ولم تمضِ الأمور بدون تطرّفات أخرى في تقييم نشاط وأفكار الرُّومنسيّين, أو بدون تشويهات وتفسيرات اعتباطيَّة متحيّزة في نظرتها إلى نظريَّاتهم.
وقد كانت السّيرورة المشروعة لتشكُل وترسُّخ الاتّجاه الجديد في الحياة الفنِّيَّة للبلاد تجد انعكاسها الطّبيعيّ في ذلك كلّه.