كان لي زعيم ومات(2):
قال الدكتور
طه حسين
..أقسم يا أستاذ حسن لو كان أعدائي شرفاء مثلك لطأطأت رأسي لهم، لكن
أعدائي أخسَّاء، لا يتقيدون بمبدأ ولا بشرف،.. ليت أعدائي مثل حسن البنا؟ إذن
لمددت لهم يدي من أول يوم) ..؟! أرأيت كيف يصنع الحب والرفق و الاحترام والتقدير
للآخر حتى مع اختلاف الفكر، وتباين الرأي ؟ إنه يمتص من نفسه المراء و الجدل
والتعصب ،ويحوله إلى صديق حميم ..!
من لي بإنســــان إذا
أغضبته وجهلت كان الحـلم رد جـــــــوابه
وإذا صبوت إلى المـدام شربت من أخلاقــــه وســكرت
مــن آدابـــه
وتراه يصغي للحـــديث بطرفــــه وبســـمعـــه ولعـــله
أدرى بــــه.
نحن أسارى دولة الحب
التي لا تزول ولا تحول:
...إنه الإمام
المجدد الشهيد: زعيم الوسطية والاعتدال و الرفق والحكمة، وأستاذ الحب وعاطفة
الثلاثاء:
يجسد كلمات الشاعر
الصوفي جلال الدين الرومي واقعا وعملا وسلوكا
إن الحب ليحول التراب تبرا،والكدر صفاء،والألم شفاء،والسجن روضة ،والقهر رحمة..وهو
الذي يلين الحديد، ويذيب الحجر، وينفخ في الميت الحياة..!)
ذلك أنه أدرك من أول يوم
أن سر نجاح الدعوة وانتشارها وانتصارها:هو الحب الصافي المشرق: وأيم الله إنها الناحية الوحيدة التي فقدناها وفقدنا
معها الخير كله والبركة كلها،كان العدو اللدود والخصم العنيد
يأتي حسن البنا لا يريد به إلا شرا أو لا
يضمر له إلا الكيد ثم يعود محبا مأخوذا بجمال إيمانه ونور وجهه وحسن سريرته ..!
بل كان يقول دائما:إن من
عيوبي أنني لا أعرف كيف أخاصم وأعادي....؟!
إن الكــــــريم
لكالربيــ ـع تحبــــه للحسـن فيه
وإذا تحــــرق حاسدوه بكى ورق لحـــــاسديه
كالورد ينفـــح بالشذى حتى أنوف الســـارقيه
لقد أخذ هذا الخلق
الفاضل والحب الكبير من الرباني:معروف الكرخي:
فهاهو معروف الكرخي
قاعد يوما على دجلة ببغداد،فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ،ويشربون ،فقال
له أصحابه أما ترى هؤلاء يعصون الله تعالى على هذا الماء؟..فادع الله
عليهم..فرفع يديه إلى السماء وقال:إلهي وسيدي :كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن
تفرحهم في الآخرة..!!فقال له أصحابه:إنما سألناك أن تدعو عليهم،ولم نقل لك ادع
لهم!!..فقال إذا فرحهم في الآخرة:تاب عليهم في الدنيا.)...
قال الراشد- في
منهجيته- معلقا:فأصل أمرنا الدعوي وشعورنا قائم على محبة
الناس والعطف على العصاة و الفساق ومحاولة انتشالهم مما هم فيه..لا الشماتة
بهم...ولا تركهم لشيطانهم...!!!...
..وها هو أحد زعماء الحب
يترنم ويدعو بهذا الدعاء الساحر العجيب::
إن من ضاق صدره عن مودتي، وقصرت يده عن معونتي كان الله في عونه وتولى جميع شؤونه،وإن كل من عاداني وبالغ في إيذائي لا كدر الله صفو أوقاته ولا أراه مكروها في حياته ،وإن كل من فرش الأشواك في طريقي ،وضيق علي السبل ،ذلل له كل طريق ،وحالفه النجاح والتوفيق..! ..)يبدو أن أكثر دعاة الإسلام قد تخلفوا عن أداء مهمة هي من أخص مهامهم ، وأن تخلفهم عن أداء هذه المهمة هو السبب
الأول وراء كل مشكلة تعترض ركب الدعوة وكل عثر يقع فيها...
هذه المهمة هي إشاعة الحب بين
القلوب ، إنه كما يختص كل أستاذ بمادة يحسنها ولا يضيره ألا يحسن سواها ، فكذلك
الداعي إلى الله يختص بمادة الحب:
حب الله وتوثيق عرى المحبة بين
القلوب...ولا يضيره كثيرا إن هو نجح في مادته أن يقصر فيما سواها ، لأنه حينئذ يكون
قد أرسى الأساس الراسخ في أعماق النفوس ، وهيأ المنبت الصالح لكل الفضائل ،
وأقام الحصن المنيع دون أكثر الفتن.)
أحبك..لا تسأل لماذا..؟!:
..إنها لضريبة الحب ندفعها للإمام الشهيد..فقد ملأ
قلوبنا إيمانا وعرفانا،وملأ الحركة الإسلامية:حيوية ونشاطا وحول جسمها البارد
قلبا ثائرا ودما فائرا..فقد أيقظ بدعوته النائمين ونبه الغافلين والحالمين وجعل
من الأمة الهامدة الخامدة أمة كلها حركة ونشاط وعمل وجهاد...
فقد كان فارسا هماما محبا
لا يترجل:
يقول أحد الدعاة: وكان أعجب ما في الرجل صبره على الرحلات في الصعيد،هذه
الرحلات التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف،حيث تكون في حالة غليان وفي أحشائها
ينتقل الرجل بالقطار والسيارة والدابة وفي القوارب وعلى الأقدام.
وهناك تراه في غاية
القوة واعتدال المزاج،لا الشمس اللافحة،ولا متاعب الرحلة تؤثر فيه،ولا هو يضيق
بها،تراه منطلقا كالسهم،منصوب القامة،يتحدث إلى من حوله ويستمع ويفصل الأمور.
وقد أمدته هذه الرحلات
في خمسة عشر عاما،زار خلالها أكثر من أربعة آلاف
قرية،وزار كل قرية بضع مرات،بفيض غزير من العلم والفهم للتاريخ البعيد
والقريب:للأسر والعائلات والبيوت وأحداثها وأمجادها وما ارتفع منها وما
انخفض..وألوانها السياسية وأثرها في قراها وبلادها ورضا الناس عنها أو بغضهم
لها..وكان يزور بلدا من البلاد بلغت فيه الخصومة بين عائلتين مبلغها...وكل عائلة
تود أن تستأثر به لتنتصر على الأخرى..فيقصد إلى المسجد مباشرة..
كان يدخل مدينة لا يعرف
فيها أحد،فيقصد إلى المسجد،فيصلي مع الناس،ثم يتحدث بعد الصلاة عن
الإسلام،وأحيانا ينصرف الناس عنه،فينام على حصير المسجد وقد وضع حقيبته تحت رأسه
والتف بعباءته...
إذا غبت عنه تفقدك و زارك:
كان الإمام الشهيد حسن
البنا رحمه الله لا يضن بوقت ولا
يدخر جهدا في سبيل دعوته سيما إذا تعلق الأمر بالطلاب ، وإنك حين تراه لا يجد متسعا من الوقت لمقابلة وجهاء
القوم
، فإنك
تتعجب حين يسمع عن غياب أحد الطلاب عن درسه ، وعدم حضوره للمركز العام كيف به يسرع لتوه في زيارته والسؤال عنه برفقة من
أصدقائه الطلاب ، وعندما قررت كلية الحقوق آنذاك تدريس مائة حديث على
طلاب الفرقة الأولى إذ بالإمام يبادر بشرح المائة حديث في مجلة الإخوان
المسلمين ويقوم الطلاب بتوزيعها فتكون سببا أن شرح الله صدر كثير من هؤلاء
الطلاب لهذه الدعوة المباركة .
أي حب هذا..وأي تضحية
هذه..؟!!:يقول زعيم الحب:
ونُحِبُّ أنْ يعلمَ
قومُنا أنهم أحبُّ إلينا من أنفسِنا، وأنه حبيبٌ إلى هذه
النفوسِ أن تذهبَ فِداءً لعزَّتِهم إن كان فيها الفِداءُ، وأن تُزْهَق ثمنًا
لمجدِهم وكرامتِهم ودينِهم وآمالِهم إن كان فيها الغَنَاء، وما
أَوْقَفَنا هذا الموقفَ منهم إلا هذه العاطفةُ التي استبدَّتْ بقلوبِنا،
ومَلَكَتْ علينا مشاعرَنا، فأقضَّتْ مضاجِعَنا، وأسالتْ مدامِعَنا، وإنه لعزيزٌ
علينا جِدُّ عزيزٍ أن نرى ما يُحيطُ بقومِنا، ثم نستسلمَ للذلِّ، أو نرضى
بالهوانِ، أو نستكينَ لليأسِ، فنحن نعملُ للناسِ في سبيلِ الله أكثرَ مما نعملُ
لأنفسِنا، فنحنُ لكم لا لغيركم أيها الأحبابُ، ولن نكونَ عليكم
في يومٍ من الأيام.
تيه وركام..:
يصف البهي الخولي عصر البنا بشكل موجز
ودقيق عندما يقول: "جاء حسن البنا والإسلام قد درست معالمه في أذهان
أكثر الناس
، فهو عندهم صلاة ركعات، وصيام أوقات، وطقوس تؤدّى في زوايا المساجد، جاء
والإباحية تهدد كل ما بقي لنا من فضيلة، والنفوس
هامدة ميتة، قد استنامت للغاصب في أحضان دعة ذليلة فاترة، قانعة في جهادها بما لا يخرجها عن الدعة، ولا يكلّفها إلا العافية من كل بلاء... جاء والشباب لا يرى في الإسلام إلا مجموعة بالية من الأفكار المتخلّفة عن
ركب الحضارة، والحكام ينبذون تشريع السماء، ويستمدّون لنا الإصلاح من
تشريعات الأجانب، والاستعمار يبارك هذه المفاسد، ويملي لها أن تذهب إلى آخر
مدى. الخولي، مجلة الدعوة 1951
هذا النص المهم الذي كتبه البهي الخولي،
وهو الشخصية العلمية المرموقة، بعد سنتين من وفاة الإمام الشهيد يمثل
وصفا دقيقا لعصر البنا، وهذا النص يعضده نص آخر للشيخ محمد الغزالي كتب في
نفس الفترة يقول فيه: "كان الساسة في ميدانهم قد هجروا
القرآن، فما تدور ألسنتهم بآياته، وما تعرف في أعمالهم توجيهاته، فإذا بهم يسمعون في ميدان السياسية واعظا يقرأ القرآن ويستهدي بمنار السنة، وكان الطيبون من أهل الخير نسوا في
العزلة التي رمتهم الحضارة الغربية فيها،
أن للإسلام شريعة تحكم، ودولة تسود... فإذا
بهم يسمعون في الصوامع والمساجد رجلا يحدثهم عن سياسة الدنيا
باسم الله" محمد الغزالي، مجلة الدعوة، 16 جمادي أول
1371 هـ
كان منشئ جيل، ومربي شعب، وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية، وقد
أثر في ميول من اتصل به من المتعلمين
والعاملين، وفي أذواقهم وفي مناهج تفكيرهم وأساليب بيانهم ولغتهم وخطابتهم تأثيرا بقي على مر السنين والأحداث،
ولا يزال شعارا وسمة يعرفون بها
على اختلاف المكان والزمان..
هذه الدعوة التي أعادت إلى الجيل الجديد في العالم العربي
الثقة بصلاحية الإسلام وخلود رسالته،
وأنشأت في نفوسه وقلوبه إيمانا جديدا، وقاومت” مركب النقص” في نفوسهم والهزيمة الداخلية التي لا هزيمة أشنع منها وأكبر خطرا، والميوعة وضعف النفوس والانسياق تحت ربقة الشهوات والطغيان،
وخلقت - كما يقول شاعر الإسلام
الدكتور محمد إقبال: “ في جسم الحمام الرخو الرقيق قلب الصقور والأسود” حتى استطاع هذا الجيل أن يصنع عجائب في الشجاعة
والبسالة والاستقامة والثبات.