د. محمد صالح حمدي
يلاحظ الباحث أن الآيات القرآنية التي تعرضت للقضايا الاقتصادية سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة منثورة في القرآن كله، فلا تكاد تخلو سورة من سور القرآن. لكن هذه الآيات حين تجمع ثم تصنف وتبوب فإنها تقدم لنا منهاجا معجزا في شموله ودقته وروعته
إن الله خلق الإنسان في هذا الكون لرسالة محددة يقوم بها، وسخر له الكون كله في سبيل ذلك، وأنزل الكتب بواسطة الرسل ليبينوا معالم هذه الرسالة ويبلغوا تعاليم الخالق العليم وشرائعه للناس حتى لا تضل بهم السبل.
وخاتم هذه الكتب والرسالات هو القرآن الكريم الذي نسخ وهيمن على الشرائع السابقة ليكون رحمة للعالمين، ونورا مبينا يهتدي به، ومنهاج الحياة في جميع نواحيها، والمرجع في كل القضايا الأساسية التي تتعلق بهذا الإنسان بربه وبالكون وفي علاقته مع غيره من البشر. فهو القائد المرشد إلى سبيل الحق وإلى الحصول على رضوان الله ونعمته في الآخرة، ففيه الحلول الناجعة لكل المشاكل التي تعترض حياة الإنسان، فلو اتخذه الناس إمامهم ومرجعهم لسعدوا في معاشهم ومعادهم، لكن أعرضوا عنه – إلا من رحم ربه – فكانت حياتهم جحيما واضطرابا وضنكا.
فالقرآن الكريم لم يكتف بالدعوة إلى وحدانية الله وإخلاص العبادة إليه، ونبذ الظلم والعدوان، لتسود قيم الحق والعدل والمساواة بين الخلائق. لكن وضع إلى جانب ذلك منهجا لتحرير العقل الإنساني وتوظيفه في سبيل ترقية الحياة الإنسانية في شتى العلوم والفنون، ورسم له الحدود القصوى التي لا يتجاوزها. فالوحي والعقل هما المنارتان اللتان تنيران دروب حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
موقع العلوم التجريبية في القرآن الكريم:
إن القرآن الكريم لا يبدو للوهلة الأولى كتابا في علوم الطبيعة أو الجغرافيا أو الفلك أو الطب أو القانون أو الاقتصاد أو السياسة، ولكنك إذا تلوته وجدت أروع ما في هذه العلوم من كمال وكأنها أمور عفوية، فهي تأتي في مواقعها الدقيقة ولكنها منثورة موزعة، ومع روعة جمالها يحس القارئ المتدبر بالرغبة الشديدة في تجميعها، بينما لو كانت محشورة في موقع واحد منذ البداية، فقد يختلف الإحساس وتتغير الرغبة، لكننا حين نتلو القرآن وندرسه دراسة موضوعية فإن هذه الآيات التي تناثرت تعطينا موضوعها المتكامل.
ومن هنا فإن الذي يكتفي بالقرآن ببعض الآيات دون بعض قد يقع في شبهة حظيرة تجره إلى القول بخلو القرآن من علاج منهجي لموضوع معين. ولذا على الباحث أن يتدبر القرآن كله قبل أن يكون رأيه.
معالجة القرآن للعلوم التجريبية والعلوم الشرعية:
عالج القرآن الكريم العلوم التجريبية علاجا عرضيا بمعنى أنه حين يذكر حقيقة من حقائق العلوم التجريبية فإنه لا يذكرها لذاتها وإنما يذكرها كبرهان وحجة تشهد لله بالقدرة بهدف الدعوة إلى توحيد الله والإيمان بعلمه وقدرته.كما أنه يذكر البعض من هذه الحقائق دون البعض لأن المقصود ليس هو الإحاطة أو التفصيل. وينبغي التذكير – في هذا الصدد- أن الحقائق التي ذكرها القرآن في شتى العلوم التجريبية لا يمكن أن تتناقض مع نتيجة من النتائج الصحيحة اليقينية التي توصل إليها البشر. بل تأتي الحقيقة القرآنية في هذا المجال سابقة على النتيجة العلمية التي توصل إليها البشر بالبحث والمعاناة وحلول الملاحظة والاستقراء والتجربة. فيرونها مماثلة مع ما قرره القرآن الكريم.
أما منهجية القرآن في علاجه للموضوعات الشرعية فمقصودة لذاتها من حيث تتضمن التكاليف والأحكام التي يجب الالتزام بها. ولذا فهي مهما كانت منثورة في الكتاب الكريم فهي متكاملة متلائمة.
وهذا التفريق بين العلوم التجريبية والشرعية هو وحده إعجاز يشهد القرآن بالعدل والحكمة، ذلك أن العلوم التجريبية خاضعة بشكل مباشر لما منحه الله للإنسان من قدرات عقلية، فهو مأمور بالبحث والنظر والتأمل فيها لأنها تخضع لحسه وعقله، فلو أن القرآن استوفى تفصيلها لما بقي للإنسان مجال يعمل فيه بقدرات عقله وحواسه، بينما هي مجال التكليف ومناط المسؤولية.
أما أن يتولى القرآن الموضوعات الشرعية التي تضم سلوك الإنسان وواجباتهم وحقوقهم ومعاملاتهم وأخلاقهم وعبادتهم واعتقادهم، فذلك أمر يعجز الناس عن إدراك وجه الصواب والحق فيه، لذا فهم دائما حينما يعالجون هذه الأمور يختلفون.
منهجية القرآن الكريم في الاقتصاد:
يلاحظ الباحث أن الآيات القرآنية التي تعرضت للقضايا الاقتصادية سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة منثورة في القرآن كله، فلا تكاد تخلو سورة من سور القرآن. لكن هذه الآيات حين تجمع ثم تصنف وتبوب فإنها تقدم لنا منهاجا معجزا في شموله ودقته وروعته
فقد وضع الأسس والمبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد من منظور إسلامي من خلال الأوامر والنواهي التي تخاطب المكلف مباشرة أو من خلال عرضه لقصة تاريخية أو بمناسبة عرضه لواقعة كانت سببا لنزول آية. كما أنه تعرض للسلوك الاقتصادي للمسلم في تملكه للأموال أو في إنتاجه للخيرات وتوزيعها وتبادلها واستهلاكها، وسلوكه الادخاري والاستثماري، كما يضرب أمثلة تتضمن توجيها وإرشاد لسلوك معين أو التحذير والنهي منه.
ومن حيث طبيعة الدراسة القرآنية لهذا الجانب نجدها دراسة موضوعية وقيمية في آن واحد، فالدراسة الوضعية تعني أننا نصف السلوك القائم ونحلله ونستخرج ما فيه من علاقات وقوانين أي أنها تصف ما هو كائن، أما الدراسة القيمية فإنها لا تقف عند مجرد الوصف والتفسير وإنما تذهب إلى توجيه السلوك والتدخل في مساره وحركته، بمعنى من حيث ما ينبغي أن يكون عليه السلوك. فالقرآن الكريم يضع التوجيهات وإرشادات على كيفية الربط بين الظواهر الاقتصادية بعضها ببعض، وكيف يستفاد منها: ومثال ذلك قوله تعالى "ولو بسط الله الرزق لعبادته لبغوا في الأرض " ربطا بين بسط الرزق والبغي وتتضمن تحذيرا من هذه النتيجة.